سورة الحجر - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحجر)


        


{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13)}
اعلم أن القوم لما أساؤوا في الأدب وخاطبوه بالسفاهة وقالوا: إنك لمجنون، فالله تعالى ذكر أن عادة هؤلاء الجهال مع جميع الأنبياء هكذا كانت. ولك أسوة في الصبر على سفاهتهم وجهالتهم بجميع الأنبياء عليهم السلام، فهذا هو الكلام في نظم الآية وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في الآية محذوف والتقدير: ولقد أرسلنا من قبلك رسلاً إلا أنه حذف ذكر الرسل لدلالة الإرسال عليه. وقوله: {فِى شِيَعِ الأولين} أي في أمم الأولين وأتباعهم.
قال الفراء: الشيع الأتباع واحدهم شيعة وشيعة الرجل أتباعه، والشيعة الأمة سموا بذلك، لأن بعضهم شايع بعضاً وشاكله، وذكرنا الكلام في هذا الحرف عند قوله: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً} [الأنعام: 65] قال الفراء: وقوله: {فِى شِيَعِ الأولين} من إضافة الصفة إلى الموصوف كقوله: {حَق اليقين} [الواقعة: 95] وقوله: {بِجَانِبِ الغربي} [القصص: 44] وقوله: {وَذَلِكَ دِينُ القيمة} [البينة: 5] أما قوله: {وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} أي عادة هؤلاء الجهال مع جميع الأنبياء والرسل ذلك الاستهزاء بهم كما فعلوا بك ذكره تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم.
واعلم أن السبب الذي يحمل هؤلاء الجهال على هذه العادة الخبيثة أمور.
الأول: أنهم يستثقلون التزام الطاعات والعبادات والاحتراز عن الطيبات واللذات.
والثاني: أن الرسول يدعوهم إلى ترك ما ألفوه من أديانهم الخبيثة ومذاهبهم الباطلة، وذلك شاق شديد على الطباع.
والثالث: أن الرسول متبوع مخدوم والأقوام يجب عليهم طاعته وخدمته وذلك أيضاً في غاية المشقة.
والرابع: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد يكون فقيراً ولا يكون له أعوان وأنصار ولا مال ولا جاه فالمتنعمون والرؤساء يثقل عليهم خدمة من يكون بهذه الصفة.
والخامس: خذلان الله لهم وإلقاء دواعي الكفر والجهل في قلوبهم، وهذا هو السبب الأصلي؛ فلهذه الأسباب وما يشبهها تقع الجهال والضلال مع أكابر الأنبياء عليهم السلام في هذه الأعمال القبيحة والأفعال المنكرة.
أما قوله تعالى: {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ المجرمين} ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: السلك إدخال الشيء في الشيء كإدخال الخيط في المخيط والرمح في المطعون، وقيل: في قوله: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} [المدثر: 42] أي أدخلكم في جهنم. وذكر أبو عبيدة وأبو عبيد: سلكته وأسلكته بمعنى واحد.
المسألة الثانية؛ احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى يخلق الباطل في قلوب الكفار، فقالوا: قوله: {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ} أي كذلك نسلك الباطل والضلال في قلوب المجرمين، قالت المعتزلة: لم يجر للضلال والكفر ذكر فيما قبل هذا اللفظ، فلا يمكن أن يكون الضمير عائداً إليه لا يقال: إنه تعالى قال: {وَمَا يَأْتِيهِم مّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} وقوله: {يَسْتَهْزِئُونَ} يدل على الاستهزاء، فالضمير في قوله: {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ} عائد إليه، والاستهزاء بالأنبياء كفر وضلال، فثبت صحة قولنا المراد من قوله: {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ المجرمين} هو أنه كذلك نسلك الكفر والضلال والاستهزاء بأنبياء الله تعالى ورسله في قلوب المجرمين، لأنا نقول: إن كان الضمير في قوله: {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ} عائداً إلى الاستهزاء وجب أن يكون الضمير في قوله: {لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} عائداً أيضاً إلى الاستهزاء لأنهما ضميران تعاقبا وتلاصقا، فوجب عودهما إلى شيء واحد فوجب أن لا يكونوا مؤمنين بذلك الاستهزاء، وذلك يوجب التناقض، لأن الكافر لابد وأن يكون مؤمناً بكفره، والذي لا يكون كذلك هو المسلم العالم ببطلان الكفر فلا يصدق به، وأيضاً فلو كان تعالى هو الذي يسلك الكفر في قلب الكافر ويخلقه فيه فما أحد أولى بالعذر من هؤلاء الكفار، ولكان على هذا التقدير يمتنع أن يذمهم في الدنيا وأن يعاقبهم في الآخرة عليه، فثبت أنه لا يمكن حمل هذه الآية على هذ الوجه فنقول: التأويل الصحيح أن الضمير في قوله تعالى: {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ} عائد إلى الذكر الذي هو القرآن فإنه تعالى قال قبل هذه الآية: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر} وقال بعده: {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ} أي هكذا نسلك القرآن في قلوب المجرمين، والمراد من هذا السلك هو أنه تعالى يسمعهم هذا القرآن ويخلق في قلوبهم حفظ هذا القرآن ويخلق فيها العلم بمعانيه وبين أنهم لجهلهم وإصرارهم لا يؤمنون به مع هذه الأحوال عناداً وجهلاً، فكان هذا موجباً للحوق الذم الشديد بهم، ويدل على صحة هذا التأويل وجهان:
الأول: أن الضمير في قوله: {لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} عائد إلى القرآن بالإجماع فوجب أن يكون الضمير في قوله: {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ} عائداً إليه أيضاً لأنهما ضميران متعاقبان فيجب عودهما إلى شيء واحد.
والثاني: أن قوله: {كذلك} معناه: مثل ما عملنا كذا وكذا نعمل هذا السلك فيكون هذا تشبيهاً لهذا السلك بعمل آخر ذكره الله تعالى قبل هذه الآية من أعمال نفسه، ولم يجر لعمل من أعمال الله ذكر في سابقة هذه الآية إلا قوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر} فوجب أن يكون هذا معطوفاً عليه ومشبهاً به، ومتى كان الأمر كذلك كان الضمير في قوله: {نَسْلُكُهُ} عائداً إلى الذكر وهذا تمام تقرير كلام القوم.
والجواب: لا يجوز أن يكون الضمير في قوله: {نَسْلُكُهُ} عائداً على الذكر، ويدل عليه وجوه:
الوجه الأول: أن قوله: {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ} مذكور بحرف النون، والمراد منه إظهار نهاية التعظيم والجلالة، ومثل هذا التعظيم إنما يحسن ذكره إذا فعل فعلاً يظهر له أثر قوي كامل بحيث صار المنازع والمدافع له مغلوباً مقهوراً.
فأما إذا فعل فعلاً ولم يظهر له أثر ألبتة، صار المنازع والمدافع غالباً قاهراً، فإن ذكر اللفظ المشعر بنهاية العظمة والجلالة يكون مستقبحاً في هذا المقام، والأمر هاهنا كذلك لأنه تعالى سلك أسماع القرآن وتحفيظه وتعليمه في قلب الكافر لأجل أن يؤمن به، ثم إنه لم يلتفت إليه ولم يؤمن به فصار فعل الله تعالى كالهدر الضائع، وصار الكافر والشيطان كالغالب الدافع، وإذا كان كذلك كان ذكر النون المشعر بالعظمة والجلالة في قوله: {نَسْلُكُهُ} غير لائق بهذا المقام، فثبت بهذا التأويل الذي ذكروه فاسد.
والوجه الثاني: أنه لو كان المراد ما ذكروه لوجب أن يقال: {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ المجرمين} ولا يؤمنون به، أي ومع هذا السعي العظيم في تحصيل إيمانهم لا يؤمنون أما لم يذكر الواو فعلمنا أن قوله: {لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} كالتفسير، والبيان لقوله: {نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ المجرمين} وهذا إنما يصح إذا كان المراد أنا نسلك الكفر والضلال في قلوبهم.
والوجه الثالث: أن قوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر} [الحجر: 9] بعيد، وقوله: {يَسْتَهْزِئُونَ} قريب، وعود الضمير إلى أقرب المذكورات هو الواجب.
أما قوله: لو كان الضمير في قوله: {نَسْلُكُهُ} عائداً إلى الاستهزاء لكان في قوله؛ {لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} عائداً إليه، وحينئذ يلزم التناقض.
قلنا: الجواب عنه من وجوه:
الوجه الأول: أن مقضتى الدليل عود الضمير إلى أقرب المذكورات، ولا مانع من اعتبار هذا الدليل في الضمير الأول وحصل المانع من اعتباره في الضمير الثاني فلا جرم قلنا: الضمير الأول عائد إلى الاستهزاء، والضمير الثاني عائد إلى الذكر، وتفريق الضمائر المتعاقبة على الأشياء المختلفة ليس بقليل في القرآن، أليس أن الجبائي والكعبي والقاضي قالوا في قوله تعالى: {هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحدة وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحاً لنكونن من الشاكرين* فلما آتاهما صالحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا ءاتاهما فتعالى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الأعراف: 189، 190] فقالوا هذه الضمائر من أول الآية إلى قوله: {جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء} عائدة إلى آدم وحواء، وأما في قوله: {جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا ءاتاهما فتعالى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ} عائدة إلى غيرهما، فهذا ما اتفقوا عليه في تفاسيرهم، وإذا ثبت هذا ظهر أنه لا يلزم من تعاقب الضمائر عودها إلى شيء واحد بل الأمر فيه موقوف على الدليل فكذا هاهنا، والله أعلم.
والوجه الثاني: في الجواب قال بعض الأدباء من أصحابنا قوله: {لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} تفسير للكناية في قوله: {نَسْلُكُهُ} والتقدير: كذلك نسلك في قلوب المجرمين أن لا يؤمنوا به والمعنى نجعل في قلوبهم أن لا يؤمنوا به.
والوجه الثالث: وهو أنا بينا بالبراهين العقلية القاهرة أن حصول الإيمان والكفر يمتنع أن يكون بالعبد، وذلك لأن كل أحد إنما يريد الإيمان والصدق، والعلم والحق، وأن أحداً لا يقصد تحصيل الكفر والجهل والكذب فلما كان كل أحد لا يقصد إلا الإيمان والحق ثم إنه لايحصل ذلك، وإنما يحصل الكفر والباطل، علمنا أن حصول ذلك الكفر ليس منه.
فإن قالوا: إنما حصل ذلك الكفر لأنه ظن أنه هو الإيمان: فنقول: فعلى هذا التقدير إنما رضي بتحصيل ذلك الجهل لأجل جهل آخر سابق عليه فينقل الكلام إلى ذلك الجهل السابق فإن كان ذلك لأجل جهل آخر لزم التسلسل وهو محال، وإلا وجب انتهاء كل الجهالات إلى جهل أول سابق حصل في قلبه لا بتحصيله بل بتخليق الله تعالى، وذلك هو الذي قلناه: أن المراد من قوله: {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ المجرمين لاَ يُؤْمِنُونَ} والمعنى: نجعل في قلوبهم أن لا يؤمنوا به، وهو أنه تعالى يخلق الكفر والضلال فيها، وأيضاً قدماء المفسرين مثل ابن عباس وتلامذته أطبقوا على تفسير هذه الآية بأنه تعالى يخلق الكفر والضلال فيها، والتأويل الذي ذكره المعتزلة تأويل مستحدث لم يقل به أحد من المتقدمين، فكان مردوداً، وروى القاضي عن عكرمة أن المراد كذلك نسلك القسوة في قلوب المجرمين، ثم قال القاضي: إن القسوة لا تحصل إلا من قبل الكافر بأن يستمر على كفره ويعاند، فلا يصح إضافته إلى الله تعالى، فيقال للقاضي: إن هذا يجري مجرى المكابرة، وذلك لأن الكافر يجد من نفسه نفرة شديدة عن قبول قول الرسول ونبوة عظيمة عنه حتى أنه كلما رآه تغير لونه واصفر وجهه، وربما ارتعدت أعضاؤه ولا يقدر على الالتفات إليه والاصغاء لقوله، فحصول هذه الأحوال في قلبه أمر اضطراري لا يمكنه دفعها عن نفسه، فكيف يقال: إنها حصلت بفعله واختياره؟
فإن قالوا: إنه يمكنه ترك هذه الأحوال، والرجوع إلى الانقياد والقبول فنقول هذا مغالطة محضة، لأنك إن أردت أنه مع حصول هذه النفرة الشديدة في القلب، والنبوة العظيمة في النفس يمكنه أن يعود إلى الإنقياد والقبول والطاعة والرضا فهذا مكابرة، وإن أردت أن عند زوال هذه الأحوال النفسانية يمكنه العود إلى القبول والتسليم فهذا حق، إلا أنه لا يمكنه إزالة هذه الدواعي والصوارف عن القلب فإنه إن كان الفاعل لها هو الإنسان لافتقر في تحصيل هذه الدواعي والصوارف إلى دواعي سابقة عليها ولزم الذهاب إلى ما لا نهاية له وذلك محال، وإن كان الفاعل لها هو الله تعالى فحينئذ يصح أنه تعالى هو الذي يسلك هذه الدواعي والصوارف في القلوب وذلك عين ما ذكرناه، والله أعلم.
أما قوله تعالى: {وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأولين} ففيه قولان: الأول: أنه تهديد لكفار مكة يقول قد مضت سنة الله بإهلاك من كذب الرسل في القرون الماضية.
الثاني: وهو قول الزجاج: وقد مضت سنة الله في الأولين بأن يسلك الكفر والضلال في قلوبهم، وهذا أليق بظاهر اللفظ.


{وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)}
اعلم أن هذا الكلام هو المذكور في سورة الأنعام في قوله: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كتابا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الذين كَفَرُواْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} [الأنعام: 7] والحاصل: أن القوم لما طلبوا نزول ملائكة يصرحون بتصديق الرسول عليه السلام في كونه رسولاً من عند الله تعالى بين الله تعالى في هذه الآية أن بتقدير أن يحصل هذا المعنى لقال الذين كفروا هذا من باب السحر وهؤلاء الذين يظن أنا نراهم فنحن في الحقيقة لا نراهم. والحاصل: أنه لما علم الله تعالى أنه لا فائدة في نزول الملائكة فلهذا السبب ما أنزلهم.
فإن قيل: كيف يجوز من الجماعة العظيمة أن يصيروا شاكرين في وجود ما يشاهدونه بالعين السليمة في النهار الواضح، ولو جاز حصول الشك في ذلك كانت السفسطة لازمة، ولا يبقى حينئذ اعتماد على الحس والمشاهدة.
أجاب القاضي عنه: بأنه تعالى ما وصفهم بالشك فيما يبصرون، وإنما وصفهم بأنهم يقولون هذا القول، وقد يجوز أن يقدم الإنسان على الكذب على سبيل العناد والمكابرة، ثم سأل نفسه وقال: أفيصح من الجمع العظيم أن يظهروا الشك في المشاهدات. وأجاب بأنه يصح ذلك إذا جمعهم عليه غرض صحيح معتبر من مواطأة على دفع حجة أو غلبة خصم، وأيضاً فهذه الحكاية إنما وقعت عن قوم مخصومين، سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم إنزال الملائكة، وهذا السؤال ما كان إلا من رؤساء القوم، وكانوا قليلي العدد، وإقدام العدد القليل على ما يجري مجرى المكابرة جائز.


المسألة الثانية: قوله تعالى: {فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ} يقال: ظل فلان نهاره يفعل كذا إذا فعله بالنهار ولا تقول العرب ظل يظل إلا لكل عمل عمل بالنهار، كما لا يقولون بات يبيت إلا بالليل، والمصدر الظلول، وقوله: {فِيهِ يَعْرُجُونَ} يقال: عرج يعرج عروجاً، ومنه المعارج، وهي المصاعد التي يصعد فيها، وللمفسرين في هذه الآية قولان:
القول الأول: أن قوله: {فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ} من صفة المشركين.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: لو ظل المشركون يصعدون في تلك المعارج وينظرون إلى ملكوت الله تعالى وقدرته وسلطانه، وإلى عبادة الملائكة الذين هم من خشيته مشفقون لشكوا في تلك الرؤية وبقوا مصرين على كفرهم وجهلهم كما جحدوا سائر المعجزات من انشقاق القمر وما خص به النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن المعجز الذي لا يستطيع الجن والإنس أن يأتوا بمثله.
القول الثاني: أن هذه العروج للملائكة، والمعنى: أنه تعالى لو جعل هؤلاء الكفار بحيث يروا أبواباً من السماء مفتوحة وتصعد منها الملائكة وتنزل لصرفوا ذلك عن وجهه، ولقالوا: إن السحرة سحرونا وجعلونا بحيث نشاهد هذه الأباطيل التي لا حقيقة لها وقوله: {لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكّرَتْ أبصارنا} فيه مسألتان:
المسألة الأولى: قرأ ابن كثير {سُكِّرَتْ} بالتخفيف، والباقون مشددة الكاف قال الواحدي سكرت غشيت وسددت بالسحر هذا قول أهل اللغة قالوا: وأصله من السكر وهو سد الشق لئلا ينفجر الماء، فكأن هذه الأبصار منعت من النظر كما يمنع السكر الماء من الجري، والتشديد يوجب زيادة وتكثيراً وقال أبو عمرو بن العلاء: هو مأخوذ من سكر الشراب يعني أن الأبصار حارت ووقع بها من فساد النظر مثل ما يقع بالرجل السكران من تغير العقل فإذا كان هذا معنى التخفيف فسكرت بالتشديد يراد به وقوع هذا الأمر مرة بعد أخرى، وقال أبو عبيدة: {سُكّرَتْ أبصارنا} أي غشيت أبصارنا فوجب سكونها وبطلانها، وعلى هذا القول أصله من السكون يقال: سكرت الريح سكراً إذا سكنت وسكر الحر يسكر وليلة ساكرة لا ريح فيها وقال أوس:
جذلت على ليلة ساهرة *** فليست بطلق ولا ساكره
ويقال: سكرت عينه سكراً إذا تحيرت وسكنت عن النظر وعلى هذا معنى سكرت أبصارنا، أي سكنت عن النظر وهذا القول اختيار الزجاج.
وقال أبو علي الفارسي: سكرت صارت بحيث لا ينفذ نورها ولا تدرك الأشياء على حقائقها، وكان معنى السكر قطع الشيء عن سننه الجاري، فمن ذلك تسكير الماء وهو رده عن سننه في الجرية، والسكر في الشراب هو أن ينقطع عما كان عليه من المضاء في حال الصحو فلا ينفذ رأيه على حد نفاذه في الصحو، فهذه أقوال أربعة في تفسير {سُكّرَتْ} وهي في الحقيقة متقاربة، والله أعلم.
المسألة الثانية: قال الجبائي: من جوز قدرة السحرة على أن يأخذوا بأعين الناس حتى يروهم الشيء على خلاف ما هو عليه لم يصح إيمانه بالأنبياء والرسل، وذلك لأنهم إذا جوزوا ذلك فلعل هذا الذي يرى أنه محمد بن عبد الله ليس هو ذلك الرجل وإنما هو شيطان، ولعل هذه المعجزات التي نشاهدها ليس لها حقائق، بل هي تكون من باب الآراء الباطلة من ذلك الساحر، وإذا حصل هذا التجويز بطل الكل، والله أعلم.


{وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18)}
اعلم أنه تعالى لما أجاب عن شبهة منكري النبوة، وكان قد ثبت أن القول بالنبوة مفرع على القول بالتوحيد أتبعه تعالى بدلائل التوحيد. ولما كانت دلائل التوحيد منها سماوية، ومنها أرضية، بدأ منها بذكر الدلائل السماوية، فقال: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السماء بُرُوجًا وزيناها للناظرين} قال الليث: البرج واحد من بروج الفلك، والبروج جمع وهي اثنا عشر برجاً، ونظيره قوله تعالى: {تَبَارَكَ الذي جَعَلَ فِي السماء بُرُوجاً} [الفرقان: 61] وقال: {والسماء ذَاتِ البروج} [البروج: 1] ووجه دلالتها على وجود الصانع المختار، هو أن طبائع هذه البروج مختلفة على ما هو متفق عليه بين أرباب الأحكام، وإذا كان الأمر كذلك فالفلك مركب من هذه الأجزاء المختلفة في الماهية والأبعاض المختلفة في الحقيقة، وكل مركب فلابد له من مركب يركب تلك الأجزاء والأبعاض بحسب الاختيار والحكمة، فثبت أن كون السماء مركبة من البروج يدل على وجود الفاعل المختار، وهو المطلوب، وأما قوله: {وزيناها للناظرين * وحفظناها مِن كُلّ شيطان رَّجِيمٍ * إِلاَّ مَنِ استرق السمع فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ} فقد استقصينا الكلام فيه في سورة الملك في تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رُجُوماً للشياطين} [الملك: 5] فلا نعيد هاهنا إلا القدر الذي لابد منه قوله: {وزيناها} أي بالشمس والقمر والنجوم {للناظرين} أي للمعتبرين بها والمستدلين بها على توحيد صانعها وقوله: {وحفظناها مِن كُلّ شيطان رَّجِيمٍ}.
فإن قيل: ما معنى وحفظناها من كل شيطان رجيم، والشيطان لا قدرة له على هدم السماء فأي حاجة إلى حفظ السماء منه.
قلنا: لما منعه من القرب منها، فقد حفظ السماء من مقاربة الشيطان فحفظ الله السماء منهم كما قد يحفظ منازلنا عن متجسس يخشى منه الفساد ثم نقول: معنى الرجم في اللغة الرمي بالحجارة. ثم قيل للقتل رجم تشبيهاً له بالرجم بالحجارة، والرجم أيضاً السب والشتم لأنه رمي بالقول القبيح ومنه قوله: {لأَرْجُمَنَّكَ} أي لأسبنك، والرجم اسم لكل ما يرمى به، ومنه قوله: {وجعلناها رُجُوماً للشياطين} [الملك: 5] أي مرامي لهم، والرجم القول بالظن، ومنه قوله: {رَجْماً بالغيب} [الكهف: 22] لأنه يرميه بذلك الظن والرجم أيضاً اللعن والطرد، وقوله الشيطان الرجيم، قد فسروه بكل هذه الوجوه.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: كانت الشياطين لا تحجب عن السموات، فكانوا يدخلونها ويسمعون أخبار الغيوب من الملائكة فيلقونها إلى الكهنة، فلما ولد عيسى عليه السلام منعوا من ثلاثة سموات، فلما ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم منعوا من السموات كلها، فكل واحد منهم إذا أراد استراق السمع رمى بشهاب.
وقوله: {إِلاَّ مَنِ استرق السمع} لا يمكن حمل لفظة {إِلا} هاهنا على الاستثناء، بدليل أن إقدامهم على استراق السمع لا يخرج السماء من أن تكون محفوظة منهم إلا أنهم ممنوعون من دخولها، وإنما يحاولون القرب منها، فلا يصح أن يكون استثناء على التحقيق، فوجب أن يكون معناه: لكن من استرق السمع.
قال الزجاج: موضع {مِن} نصب على هذا التقدير. قال: وجائز أن يكون في موضع خفض، والتقدير: إلا ممن.
قال ابن عباس: في قوله: {إِلاَّ مَنِ استرق السمع} يريد الخطفة اليسيرة، وذلك لأن المارد من الشياطين يعلو فيرمى بالشهاب فيحرقه ولا يقتله، ومنهم من يحيله فيصير غولاً يضل الناس في البراري. وقوله: {فَأَتْبَعَهُ} ذكرنا معناه في سورة الأعراف في قصة بلعم بن باعورا في قوله: {فَأَتْبَعَهُ الشيطان} [الأعراف: 175] معناه لحقه، والشهاب شعلة نار ساطع، ثم يسمى الكواكب شهاباً، والسنان شهاباً لأجل أنهما لما فيهما من البريق يشبهان النار.
واعلم أن في هذا الموضع أبحاثاً دقيقة ذكرناها في سورة الملك وفي سورة الجن، ونذكر منها هاهنا إشكالاً واحداً، وهو أن لقائل أن يقول: إذا جوزتم في الجملة أن يصعد الشيطان إلى السموات ويختلط بالملائكة ويسمع أخبار الغيوب عنهم، ثم إنها تنزل وتلقي تلك الغيوب على الكهنة فعلى هذا التقدير وجب أن يخرج الأخبار عن المغيبات عن كونه معجزاً لأن كل غيب يخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم قام فيه هذا الاحتمال وحينئذ يخرج عن كونه معجزاً دليلاً على الصدق، لا يقال إن الله تعالى أخبر أنهم عجزوا عن ذلك بعد مولد النبي صلى الله عليه وسلم لأنا نقول هذا العجز لا يمكن إثباته إلا بعد القطع بكون محمد رسولاً وكون القرآن حقاً، والقطع بهذا لا يمكن إلا بواسطة المعجز، وكون الإخبار عن الغيب معجزاً لا يثبت إلا بعد إبطال هذا الاحتمال وحينئذ يلزم الدور وهو باطل محال، ويمكن أن يجاب عنه بأنا نثبت كون محمد صلى الله عليه وسلم رسولاً بسائر المعجزات، ثم بعد العلم بنبوته نقطع بأن الله تعالى أعجز الشياطين عن تلقف الغيب بهذا الطريق، وعند ذلك يصير الإخبار عن الغيوب معجز، وبهذا الطريق يندفع الدور، والله أعلم.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8